تأثير حرب غزة- الجيش والاقتصاد الإسرائيلي - دور متقلب في التنمية

المؤلف: د. عمار علي حسن10.01.2025
تأثير حرب غزة- الجيش والاقتصاد الإسرائيلي - دور متقلب في التنمية

ركز المحللون على الآثار المباشرة للحرب التي تشنها تل أبيب على قطاع غزة على الاقتصاد الإسرائيلي، بما في ذلك تقلص احتياطيات النقد الأجنبي، مما أدى إلى تفاقم العجز في الميزانية العامة، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات التضخم، وتخفيض التصنيف الائتماني للدولة العبرية.

مع ذلك، غاب عن أذهان الكثيرين تأثير أعمق يتعلق بالدور الحيوي الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد، والذي يتجاوز نطاق المشاريع المباشرة ليشمل دوره المحوري في تأهيل الكفاءات البشرية القادرة على المساهمة الفعالة في مختلف قطاعات الدولة، سواء من خلال المشروعات الحكومية أو المبادرات المدنية الخاصة.

هذا التأثير يتجاوز بكثير حدود الإجراءات العاجلة التي قد تتخذها الحكومة لإنعاش الاقتصاد، كتقليل الإنفاق العام، وتعزيز الإيرادات الحكومية، خاصة من الضرائب التي من المتوقع أن تصل إلى 18٪ بحلول عام 2025، وتقليص المخصصات المالية للأحزاب السياسية التي تشكل الائتلاف الحاكم، وإلغاء الوزارات الحكومية غير الضرورية، ومكافحة السوق السوداء.

على مدى العقود الماضية، اضطلع الجيش الإسرائيلي بدور جوهري في إعداد المواطنين لدخول عالم ريادة الأعمال، وتعزيز قدرتهم على الابتكار والإبداع والمنافسة. فالعديد من القيم والممارسات التي تقوم عليها الخدمة العسكرية الإلزامية، والتي تدمج جزءًا كبيرًا من المجتمع، باستثناء الحريديم وفلسطينيي 48 والمسيحيين، مثل القدرة على التصرف الفوري في المواقف الطارئة، وتجنب الآثار السلبية للتسلسل الهرمي الإداري دون المساس بالتنظيم، وتعزيز ثقافة النقد البناء والحوار الهادف والمساءلة، بالإضافة إلى الدعم المالي من خلال "الصناديق التمويلية" وتعليمهم فنون التسويق، كلها عوامل تساهم في بناء جيل مؤهل وقادر على الإسهام في التنمية الاقتصادية.

وقد ساهمت هذه القيم والإجراءات في تحفيز الاقتصاد، وفقًا لمفهوم "رأسمالية المجازفة" بالنسبة للمجندين، وانعكس ذلك أيضًا على الدور الذي يلعبه الجنود غير المؤهلين للقيام بمهام قتالية، لأسباب صحية أو غيرها، مثل تقديم الخدمات المدنية للمجتمع، كمساعدة المعلمين في المدارس الحكومية والعمل في إذاعة الجيش.

عادة ما تميل الجيوش إلى ترسيخ الانضباط على حساب المرونة، لكن الوضع مختلف في الجيش الإسرائيلي. فعندما نتحدث عن العقيدة العسكرية، غالبًا ما يتبادر إلى الذهن التسلسل الهرمي الصارم، والطاعة العمياء للقادة، والإصغاء التام للأوامر، والامتثال لفكرة أن الجندي مجرد جزء صغير وغير مطلع في منظومة واسعة.

إلا أن هذه الصورة النمطية لا تنطبق على الجيش الإسرائيلي. بل تسود فيه ثقافة الارتجال والتحرر من القيود الهرمية، مما شجع الإسرائيليين على تأسيس شركاتهم الناشئة، وهو ما أصبح ملحوظًا لدرجة أن البعض يصفه بسحر التكنولوجيا الذي يكتسبه الإسرائيليون في وحدات النخبة العسكرية.

أحد الجوانب الهامة للقيم الاقتصادية التي يغرسها الجيش في المجتمع يتمثل في اللامركزية في اتخاذ القرارات على المستوى الميداني التكتيكي. ففي حين توجد خطة عامة لكل الفرق والألوية والكتائب والسرايا والفصائل، يتمتع كل قائد ميداني بالصلاحية لتنفيذها بما يتناسب مع الظروف التي يواجهها، مع ضمان سهولة تبادل الأوامر والتعليمات بين القيادات العليا والدنيا، مما يعزز الثقة المتبادلة.

يتمتع القادة على مختلف المستويات، حتى الدنيا منها، بصلاحيات واسعة. فقد يتمكن جندي برتبة رقيب من استدعاء سلاح الجو لتقديم الدعم والإسناد الميداني له. ولا شك أن هذا يعزز ثقة الفرد في الجيش الإسرائيلي، بغض النظر عن رتبته، في اتخاذ القرارات وتوقع الاستجابة، وهو ما ينعكس إيجابًا على أدائه بعد انتهاء خدمته العسكرية وإطلاقه مشروعه الخاص.

بشكل عام، يقوم هذا الدور الاقتصادي والاجتماعي للجيش الإسرائيلي على ثلاثة اعتبارات رئيسية:

  1. بناء مجتمع عسكري لتعويض إسرائيل عن النقص في القوى البشرية، مما يحول دون تشكيل جيش عامل كبير، وتعزيز فكرة أن الهدف من الخدمة العسكرية هو حماية المجتمع، مما يعني إعداد مجتمع الاحتلال عسكريًا بشكل واضح، وتحويل الجيش في نهاية المطاف إلى أداة أساسية في يد الدولة.
  2. تطوير السكان كقوة قومية واجتماعية قادرة على الاعتماد على نفسها اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا وعسكريًا، وخلق تكتل قادر على زيادة طاقته البشرية والإنتاجية، وإخضاع كل جوانب الحياة في دولة الاحتلال لمتطلبات الحرب. وبالتالي، يجب أن يصبح السكان والاقتصاد والسياسة جزءًا من إستراتيجية حرب طويلة الأمد. لذلك، يتم دمج المجتمع بأكمله في المجهود الحربي، بغض النظر عن الاختلافات في التعليم والطبقة الاجتماعية ومكان الإقامة والآمال المعلقة على الدولة.
  3. لعب الجيش الإسرائيلي دورًا رائدًا في التقدم التقني في المجتمع، وهو ما يتماشى مع الدور الذي يطمح إليه الغرب لإسرائيل كقوة ردع، فهي الأعلى إنفاقًا على التسلح في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث تجاوز إنفاقها 200 مليار دولار في السنوات العشر بين عامي 2010 و 2020.

يمتلك هذا الجيش ميزانية معلنة ضمن الميزانية العامة للدولة، يقرها الكنيست، بالإضافة إلى ميزانية سرية تسمى "ميزانية التعاقدات"، ولا يعرف عنها أحد خارج الجيش، وهي مسألة قابلة للمراجعة بعد انتهاء الحرب على غزة.

وقد وصف شمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، دور الجيش في تحديث المجتمع الإسرائيلي قائلاً: "كل تكنولوجيا تصل إلى إسرائيل من أمريكا، تذهب إلى الجيش، وفي غضون خمس دقائق يقومون بتغييرها".

إذ كان على المسؤولين عن إدارة شؤون إسرائيل المسلحة الاستفادة من كل دعم يأتي إليها لتقوية الدولة، والحفاظ على قدر من الاستقلالية عن الغرب نفسه بمرور الوقت، بحيث لا تكون رهينة لسياساته ومصالحه في كل حين، بل يكون ولاؤها الأساسي لمصلحتها الخاصة، متجاوزة، قدر الإمكان، دور الدولة الوظيفية.

مع مرور الوقت، بدأت ثقافة السوق القائمة على السيطرة الاقتصادية تحل محل الوضع التقليدي لـ "المواطن الجندي" المرتبط بالسيطرة السياسية. فقد خضع الجيش لتنافس السوق، وأصبحت الخدمة العسكرية سلعة، مما يعني ببساطة انخفاض مستوى مشاركة المؤسسات السياسية في تحديد قرارات السلم والحرب، مقارنة بالماضي.

أصبح الجيش الإسرائيلي ذا توجه سوقي يعتمد على التمييز بين التضحية بالمال والتضحية بالنفس. ويحدث هذا في بيئة تنافسية تحكمها قوانين السوق، مما يجبر الجيش على تسويق خدماته، والسماح باختراقه إعلاميًا وإجراء حوار مع الشعب بهدف الترويج لمنتجاته، وبالتالي تحويل الجنرالات إلى شخصيات عامة.

باتت آليات السوق هي الأكثر فاعلية وقادرة على تحدي تفوق الفكر العسكري من خلال تقييد المؤسسة عسكريًا، خاصة عندما تصبح تكلفة الحرب باهظة مقارنة بالمكاسب السياسية والاقتصادية غير المباشرة.

هذا التوجه يجعل تكلفة الحرب عاملاً حاسمًا عند اتخاذ الحكومة قرار شنها، أو عندما يطول أمد الحرب، مما يزيد من هذه التكلفة، وبالتالي يظهر أشخاص مستاؤون أو متذمرون، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، خاصة بعد استدعاء أعداد كبيرة من جنود الاحتياط وإبقائهم لفترة طويلة في ساحة المعركة.

تؤثر الحرب بشكل عميق على التوازن القائم بين الجيش والاقتصاد والمجتمع في إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أدت حرب عام 2006 إلى تسريع وتيرة الإشراف المدني على الجيش، أي سيطرة السوق.

فقد حل الجندي الخاضع لسيطرة السوق محل نموذج الجندي الذي كان المجتمع السياسي يشرف عليه من خلال الشبكات الاجتماعية التي يخدم فيها، حيث يتم مراقبة نشاطه من منظور تجاري، نتيجة للتغيرات في تركيبه الاجتماعي وتأثير البيئة التنافسية المشابهة للسوق، مما يجبر الجيش على تسويق خدماته من خلال السماح بالاختراق الإعلامي والحوار المباشر مع الشعب، وتسليع الخدمة العسكرية كجزء من عملية الاحتراف.

ويرى الجنرال جيورا إيلاند، الذي ترأس سابقًا شعبة التخطيط في الجيش ومجلس الأمن القومي، أن حرب عام 2006 شهدت انحرافًا عن "النموذج الريادي" وتسببت في أربعة إخفاقات للجيش: سوء أداء الوحدات القتالية، خاصة في البر، وضعف القيادة العليا، ورداءة أداء القيادة والسيطرة، وفشل القيم التقليدية التي اعتاد عليها الجيش، حيث كان من النادر تجاوز الأفكار المسبقة والمسلمات، وافتقار الذهنية إلى الانفتاح على الأفكار الجديدة.

وقد ساهم تغلب آليات السوق على الجيش الإسرائيلي، في ظل تبادل المصالح والتغذية الراجعة بين المجتمع والجيش، في جعل الاقتصاد أكثر حساسية للوضع الذي يعيشه الجيش، سواء في أوقات السلم أو الحرب، وفي حالة الحرب، سواء كان الجيش يحقق انتصارات أو يواجه صعوبات أو هزائم، وما إذا كان يشن حربًا خاطفة أم يتورط في حرب طويلة.

أثرت الحرب على غزة سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي من خلال المشروعات الصغيرة، الأكثر هشاشة، والتي كان وجودها يعبر عن القيم الثقافية التي ترسخها الخدمة العسكرية في المجتمع، مثل المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات والابتكار، وفقًا لتصور بعض الباحثين الاقتصاديين الغربيين. فمن بين 46 ألف شركة أغلقت أبوابها منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هناك 35 ألف شركة صغيرة، أي ما يعادل 77٪. ومن المتوقع أن يصل عدد الشركات المغلقة إلى 60 ألف شركة بحلول نهاية عام 2024.

كما تعرضت قطاعات اقتصادية هامة لأضرار بالغة، مثل البناء والتشييد، والتجارة والسياحة، والزراعة وبعض الصناعات. وبلغت نسبة الضرر في قطاع البناء والتشييد حوالي 27٪، وفي قطاع الخدمات حوالي 19٪، بينما تضرر قطاع الصناعة والزراعة بنحو 17٪، وقطاع التجارة بنحو 12٪. أما صناعة التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) والتقنيات المتقدمة فقد تضررت بنحو 11٪، وصناعة الأغذية والمشروبات بنحو 6٪.

من المتوقع أن تتفاقم الآثار السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي مع انخفاض نسبة المهاجرين الجدد، الذين كانوا يشكلون دائمًا مصدرًا رئيسيًا لحيوية الاقتصاد. هذا التوقع مبني على تجارب سابقة تظهر أن الهجرة إلى إسرائيل تزداد في أوقات انتصارات الجيش وتتراجع في أوقات تعثره أو هزيمته. فعلى سبيل المثال، بين عامي 1972 و 1973 هاجر إلى إسرائيل حوالي مائة ألف شخص جديد، لكن العدد انخفض إلى أربعة عشر ألفًا في عام 1974، واقترب من الصفر في عام 1975.

مع تراجع هجرة اليهود إلى إسرائيل، التي كانت بمثابة قوة دافعة في شرايين اقتصادها، نشهد الآن هجرة عكسية، يقدرها البعض بنحو نصف مليون شخص منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى".

يؤدي هذا الوضع إلى ظهور عاملين يمارسان ضغوطًا على الاقتصاد. أولهما هو هجرة العقول، حيث يفضل اليهود المتميزون، بمن فيهم أولئك الذين اكتسبوا مهارات تقنية متقدمة من خلال انخراطهم في الجيش، مغادرة البلاد والعودة إلى الدول الأخرى التي لا يزالون يحملون جنسياتها وجوازات سفرها.

العامل الثاني هو ضعف القوى العاملة، حيث يشارك النصف تقريبًا في الإنتاج، وكانت تل أبيب تعوض هذا النقص من خلال العمالة الفلسطينية القادمة من غزة والضفة الغربية، والتي توقفت بسبب الحرب.

ومما يزيد الطين بلة أن الاقتصاد الإسرائيلي بطبيعته أكثر حساسية تجاه أي تهديدات أمنية تؤدي إلى عزوف المؤهلين من ذوي الذكاء والمهارات ورأس المال عن الاستثمار في الدولة العبرية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة